في عشق الأرض والناس

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
22/09/2013 06:00 AM
GMT



لم يختلف على حبه اثنان؛ فهو المحب المعطاء النقي بلا حدود؛ وهو العراقي حتى النخاع. كرّس سنوات حياته كله لإيجاد مكانة للجمال في حياة الناس. ناظم رمزي (1928-2013) من جيل الفنانين العراقيين المحدثين الذين أرسوا قواعد فنية ومهنية عالية في السلوك والعطاء والإبداع. برحيله في صباح الثامن من أيلول 2013 في لندن، فقد العراق إنسانا وفنانا قلما يجود به الزمن مرتين؛ رجل جمع في شخصه العظمة والتواضع، نكران الذات والعطاء. إنه عالَم قائم بذاته، لكن أبوابه مشرعة أبدا أمام الجميع. بفقدانه لفظ العراق من أنفاسه المتردية بقايا ما ظلّ من أنفس عراقية متقدة مشتتة في أرجاء الدنيا شرقا وغربا.

بابتسامة لا تفارق شفتيه، حتى عندما يكون في لب المحنة، كان رمزي، قادرا على أن يحوّل كل كرب إلى انفراج، وكل همّ إلى ضحكة. اشتد به المرض في الأشهر الأخيرة، وفقد، مع ما فقد من طاقاته الفذة، رغبته في الكلام باستثناء مشاعر الحب للأصدقاء يبثها بعجالة واعتذار. غالبا ما يشعر الواحد منا لدى تلقيه نبأ وفاة شخص عزيز بفراغ مهول يكاد يلتهمه، فيبحث عن جدار يستند إليه. هكذا وجدتني أسعى إلى ملاذ. هرعت إلى كتاب رمزي "من الذاكرة" (الدار العربية للعلوم-ناشرون بيروت 2008). أمعنت النظر في صوره المعبرة الأخاذة بالأبيض والأسود، والتي تمثل جزءا يسيرا مما التقطت كاميرته على مدى عقود. انغمرت في الكتاب أعيد قراءة سيرة الفنان المكتوبة بأسلوب حيوي وجمل مقتضبة قادرة على تصوير المكان والحدث بأقل ما يمكن من كلام؛ أسلوب لا يمثل سوى شخصية رمزي المتواضعة وعزوفه عن التكلف.

كانت لوحات رمزي الفوتوغرافية في بغداد حاضرة دائما أمامنا، خاصة البورتريهات التي التقطها لوجوه الفلاحين والفلاحات والصيادين والباعة في الأسواق الشعبية والأطفال أين ما وجدوا، من جنوب العراق إلى شماله. ما بالها اليوم تخاطبني بلغة مختلفة! سواء أكان رمزي واعيا أم غير واع، تنبهت إلى حقيقة أن الوجوه العراقية التي صورها والمشاهد المختلفة، كانت منذ المراحل الأولى لنشاطه تذهب إلى أبعد من الواقع الذي تمثله. بابتسامة غامضة، أو نظرة متحدية، أو تساؤل لا يخلو من فضول، كانت هذه الموديلات التي التقطها في الأربعينيات أو الخمسينيات من القرن الماضي، تقف أمام عدسته بطواعية ورضا لا يخلو من فرح. كان يعشق موضوعته، فيرسل عدسته لتتوغل إلى ما بعد هذا الظاهر الذي أمامه، وتسعى أبدا للتسلل إلى أسرار هذه الكائنات التي تبادله المحبة فتخبره همسا بما لا تقدر على الافصاح به جهرا. وذلك سر عظمة صور مجموعته "العراق.. الأرض والناس" أو بعض ما نجا منها.

بدأ رمزي التصوير هاويا عندما امتلك في صباه كاميرا بوكس فبدأ يلتقط صور مَن حوله من المشاهد الغنية بالإنسان والمتعة والفرح البريء؛ المحيط الذي ألقى بنفسه في لجته هربا من المدرسة الأمريكية أو حتى كلية فيصل التي كانت لا تقبل إلا المتفوقين من خريجي الابتدائية. أراد والده أن يحظى ابنه بأعلى درجات التعليم المدرسي، وآثر هو أن ينتمي إلى مدرسة الحياة، وملامسة الأرض والناس من كثب، يصنع نفسه بنفسه كما يحب. لقد عشق الحياة الحرة، وحافظ عليها قدر الإمكان حتى لو اضطر إلى التنازل عما يملك.

تهيأ لرمزي في سنوات طفولته وصباه أن يتعرف إلى الطبيعة العراقية وناسها في مختلف أنحاء العراق بحكم انتقاله مع والده الذي كان موظفا إداريا خلال السنوات 1934-1944. أحب صيد الطيور وتعلم فنون صيدها، كما أحب البرية واقترب منها ومن ناسها حتى أصبح واحدا من أهلها، ومارس شتى ألعاب الصبية التي تمارس في الحارات. من كل مكان حلّ فيه اكتسب عاداته، وعلقت في قلبه هوايات أصبح لها شأن في مستقبله. في "اليوسفية" بدأ يمارس رسم الزخارف التي استهوته، وفي "خان بني سعد" وجد سعادته في حياة الريف ورعي الأغنام:"كانت لهذه القرية الصغيرة تأثير كبير على نمط حياتي وسلوكي ولهوي وطبيعة المعيشة.." كان رفاقه من أسر فلاحية فقيرة "وقد قدر لي أن أصبح وكأني واحد منهم .. كان يصعب لمن يراني أن يكتشف أنني ابن مدير الناحية، فلا فرق بيني وبين أبناء الفلاحين، وكان ذلك يسعدني."(من الذاكرة ص 20) وفي ناحية "المحاويل" كان يتنقل بين التلال ويعايش عن قرب ما فيها من آثار الحضارة البابلية. حياة اللهو قادته إلى العمل الجاد الذي كرّس له نفسه منذ وقت مبكر من سنوات عمره. بدايات كان فيها من العمل البناء بقدر ما فيها من العبث واللهو، كان الاثنان يمضيان معا ويغذيان تجربته الفنية والحياتية معا.

في كلية فيصل الثانوية أنجز أول رسم له، وشاهده منشورا في المجلة. ثم بدأ يتردد على مرسم دار المعلمين ويحضر المعارض الفنية. ارتبط بعلاقات وثيقة مع رواد الفن آنذاك. ثم وجد نفسه منغمرا في الرسم والتصميم والخط، فتعرف على الفنانين هاشم البغدادي، وكان يمضي الساعات في مراقبة عمله الدقيق، كما تعرف إلى جل الخطاطين الكبار آنذاك. ذلك ما قاده إلى للتوغل في ممارسة الخط ورسم الاعلانات وتزيين الواجهات. ومن هذا الباب دخل عالم الطباعة وتعلم الطباعة بالشاشة الحريرية، وكانت تقنية جديدة تعلمها الفنان عيسى حنا في أمريكا، حتى تهيأت له فرصة الدخول شريكا في مطبعة يحيى ثنيان، فعرفت بعد ذلك باسم مطبعة رمزي وثنيان. هناك تعرف إلى شخصيات عراقية مرموقة تعمل في حقلي التجارة والصناعة مما وسع أعماله وشهرته. لقد قربه عالم الطباعة والزنكوغراف من الخطاطين والصحفيين والكتاب فضلا عن الفنانين المحدثين الكبار الذين وجد نفسه قريبا منهم يستفيد من تجاربهم وملاحظاتهم. بل وجد رمزي نفسه منغمرا في العمل السينمائي حيث أسهم في إعداد الديكورات لفيلم عليا وعصام، أول أنتاج لستوديو بغداد في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي.

كان كل من الفنانين فائق حسن وجواد سليم قد لاحظا طبيعة التصوير الفوتوغرافي الذي يمارسه ناظم رمزي، وحثاه على تصوير موضوعاته بحس إنشائي تعبيري. كانت رغبته في التصوير تدفعه إلى السفر إلى مناطق عديدة في العراق ودائما بصحبة فنانين ومعماريين. هكذا اكتسب رمزي خبرته المعرفية والعملية من خلال التجارب الشخصية أولا، ومن خلال زملائه ورفاقه المبدعين. كما هيأ له تغلغله بين الناس معرفة المجتمع العراقي بجميع طبقاته وشرائحه.لم يكن منفتحا على الناس فقط وإنما على المعارف شتى، يتلقفها من العلماء بقدر ما يتلقفها من البسطاء الذين يجالسهم، فجاء عطاؤه انعكاسا لتجربته الفذة التي جعلته نموذجا عراقيا بامتياز.
 
 
يعد ناظم رمزي أول مصور فوتوغرافي عراقي نقل الفوتوغراف من مجرد توثيق جمالي إلى فن تعبيري. كان لمعرفته بفنون الرسم الزيتي وممارسته له، ثم اقترابه الشديد من كبار الفنانين العراقيين الذين لمسوا لديه القدرة والموهبة على تقديم فن فوتوغرافي راق، وقدرته على التقاط التعبيرات الدرامية والمشاهد التي لا تخلو من إنشاء تصويري وموضوعات محض عراقية، خاصة في استخدامه تقنيات الظل والضوء، قد أهّله للمشاركة في الجناح العراقي لمعرض اليونيسكو في بيروت 1954 إلى جانب نخبة من الفنانين البارزين. أيضا، كان أول مصور فوتوغرافي يقيم معرضا شخصيا في مطلع عام 1959 تحت عنوان "العراق.. الأرض والناس"، بافتتاح رسمي من قبل رئيس الوزراء الزعيم عبد الكريم قاسم.

 
يغادر رمزي بغداد إلى باريس (1964) ليمضي فيها سنتين، ذهب خلالها إلى براغ عند محمود صبري ومنها إلى أمكنة مختلفة للاطلاع على طرق الطباعة وتقنياتها. حين عاد إلى بغداد أسس مطبعته الخاصة "مطبعة رمزي" بمساعدة صديقه مريوش فالح وأصحابه. لم يكن لمطبعة رمزي دورها الرائد بنقل فن الطباعة في العراق إلى مستويات فنية مرموقة فقط، وإنما كانت أبوابها مشرعة أمام الفنانين من الأجيال اللاحقة أيضا الذين كانوا يترددون عليها ويعملون فيها وينفذون مشاريعهم التي يتطلب تصميمها وتنفيذها أداء راقيا. ومن خلال هذه العلاقات الحميمة، والإلحاح الشديد على الفنان، شاهد جمهور المعارض الفنية ولأول مرة لوحات مرسومة لناظم رمزي شارك فيها في معرض السبعة لجماعة الرؤية الجديدة (المتحف الوطني للفن الحديث -كولبنكيان) في بغداد ثم في لندن 1977. قدّم رمزي في هذا المعرض أعمالا كبيرة الحجم منفذة بالريشة الهوائية (air brush) أعتقد أنها كانت تقدم للمرة الأولى في العراق. واستقطبت أعماله جمهور المشاهدين بتكويناتها التجريدية الخالصة، أو تلك التي تحمل في ثناياها وجوها مموهة مغمورة في ألوانها المتداخلة الصارخة. مرة أخرى نجد في هذه اللوحات غزارة الألوان وتداخلها كما عشقها رمزي منذ أن كان فتى يراقب باندهاش حائك البسط في ناحية اليوسفية.

أحلام رمزي ومشاريعه الفنية لم يكن لها حدود وما كانت لتقف عند شكل واحد. في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، أسس في بغداد الدار العربية للطباعة والنشر، وبدأ مع نخبة من المبدعين العراقيين تحقيق حلم كبير طالما راوده هو إصدار مطبوعات وكتب فنية مرموقة، وتحقيق ما راوده دائما من إصدار مجلة عربية متخصصة بالفنون. ولضمان جودة الطباعة بالمستوى الذي يتطلبه إصدار مجلة كهذه، أقيم للدار فرعا في لندن مع اختيار فريق عمل في لندن يتكون من بلند الحيدري وضياء العزاوي وهاشم سمرجي ومحمد كامل عارف وكاميران قره داغي ولمعان البكري، ورأس تحريرها جبرا إبراهيم جبرا الذي كان مقيما في بغداد. صدر العدد الأول من المجلة في 1981، وتلته سبعة أعداد (رمزي يذكر أن مجموعها تسعة) قبل أن تتوقف المجلة نتيجة الصعوبات المالية التي أوجدها اندلاع الحرب العراقية الإيرانية. في هذه المرحلة أصبح رمزي يواجه صعوبات وضغوطات أخرى في بغداد تهدد حريته الشخصية، الأمر الذ اضطره إلى التنازل عن حصته في المطبعة لشريكه، ومغادرة العراق إلى غير عودة (1988). هكذا بدأ رمزي حياة جديدة في لندن بإقامة مكتب باسم آرت سكان Art Scan، يمارس فيه نشاطه الفني في التصميم والطباعة والرسم.

في السنوات الأولى من نشأته، تعلم رمزي شيئا من كل مكان أقام فيه مع والده. كان عشقه الفني الأول قد تجلى في رسم الزخارف في اليوسفية عندما كان والده مديرا للناحية. وحين رأى حائك السجاد يصبغ خيوطه بالألوان الزاهية التي اشتهرت بها البسط العراقية، صار يجلس أمامه ساعات يراقب عمله على الجومة وهو ينسج الأشكال الهندسية الملونة الصغيرة ويجاور بعضها بعضا. من هذا المدخل البسيط توغل رمزي إلى عالم التصميم والزخرفة والخط الجميل. ربما ما كان في حسبانه أن هذا الطريق سيأخذه في الحقبتين الأخيرتين من حياته إلى تكريس وقته وحياته لتحقيق أكبر إنجاز فني إسلامي.

كان آخر لقاء لي ورافع مع رمزي في لندن 1990. يومها كان منغمرا بالعمل على مشروع خاص به لإنجاز نسخة مبتكرة من المصحف الشريف بتقديم:"تصميم جديد غير مسبوق"، كما قال. ولعلمي أنه رجل دنيا، سألته عن سر هذا الولع. فأخبرني أنه في أثناء العمل على فرز نسخة من المصحف الكريم، المعروف بنسخة روزبهان، للخطاط محمد الطبعي (894 صفحة)، كانت قد عهدت به إليه مؤسسة "اقرأ"، وجد نفسه للمرة الأولى على تماس مباشر مع جماليات الفنون الإسلامية بزخرفتها وتوريقها وتذهيبها، وتوغل عميق في أسرار تلك الأشكال المتوالدة والمتداخلة بلا حدود. ولدى الانتهاء من ذلك المشروع، وربما من شدة الإدمان على التعامل مع لغة الجمال الفياض، بدأ رمزي ينفّذ مشروعه الخاص، فطلب من الخطاط العراقي البارع عبد الرضا بهية (روضان) بخط صفحاته البالغة 680، وقام هو بالعمل على تنفيذ ما يمليه عليه حسه الخاص وخبرته الطويلة في التصميم والإنشاء. استغرق إنجاز العمل، خطا وتصميما وإعدادا، اثنتا عشرة سنة، ظل رمزي خلالها عاكفا على إخراج عمله الأخاذ حتى أنهك قواه. كان هذا العمل الذي حصل على موافقة الأزهر الشريف لنشره بعد دراسة عميقة، ذروة أعمال رمزي وخاتمة إبداعاته التي "دفع حياته ثمنا لها" على حد تعبير صديق عمره محمود أحمد عثمان. غير أن نشره وإخراجه إلى النور بات عصيّا حين عزّ على أي مؤسسة تبنى هذا المشروع النبيل. الإحساس بالفقدان مر، والأمرُّ منه ضياع الأثر وفقدانه. شعور يلازمنا نحن العراقيين، نعيش هاجسه منذ سنين. من باريس كتب نوري الراوي رسالة إلى رمزي في 26 كانون الثاني 1996، قال فيها:"قبل أن أبدأ الحديث معك وكأنك غادرتنا البارحة، فكرت طويلا في هذه المواقع التي وضعتنا الحياة فيها مسيّرين لا مخيّرين. وكنت بالأمس أعد الأيام على أصابعي، وكذلك أعد أحبابي وأصحابي، ولكنني في نفس الوقت أخشى من ذلك اليوم الذي لا أعد فيه سوى أصابعي على أصابعي!!"